التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
لم تحدث مشكلة في مسألة حرق المصاحف غير المعتمَدة إلا مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وموقفه يحتاج إلى وقفة لفهمه.
لم تحدث مشكلة في هذه المرحلة التاريخية في مسألة حرق المصاحف غير المعتمَدة إلا مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وموقفه يحتاج إلى وقفة لفهمه.
روى عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، كَرِهَ ل زيد بن ثابت رضي الله عنه نَسْخَ المَصَاحِفِ وَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ المُصْحَفِ وَيَتَوَلَّاهَا رَجُلٌ وَاللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ» -يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه- وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: «يَا أَهْلَ العِرَاقِ اكْتُمُوا المَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 161] فَالقُوا اللهَ بِالمَصَاحِفِ». قَالَ الزُّهْرِيُّ: «فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ مَقَالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم»[1].
فَسَّرَ عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه موقفه بأنه:
1- كان مسلمًا يتلقَّى القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما كان زيد بن ثابت رضي الله عنه لم يُولَد بعد!
2- وذكر أنه لا يعلم أحدًا أعلم بالقرآن منه. قال ابن مسعود رضي الله عنه: «وَالذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا مِنْ كِتَابِ اللهِ سُورَةٌ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ حَيْثُ نَزَلَتْ، وَمَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَا أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللهِ مِنِّي، تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ، لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ».
3- أيضًا كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مدعومًا بشهادات نبوية عظيمة في جانب القرآن الكريم تحديدًا؛ فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، فَبَدَأَ بِهِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ»، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ مِنَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ».
ومع ذلك ف عثمان رضي الله عنه معذور في عدم اختياره لابن مسعود رضي الله عنه لهذه المهمة؛ وكذلك فعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في عملية جمع القرآن الأولى في عهد الصديق رضي الله عنه؛ والسبب:
1- أن المهمة كانت «كتابة» القرآن وليس مجرَّد تلاوته، وزيد بن ثابت رضي الله عنه كان من كتبة الوحي، فهو أدرى «برَسْمِ» المصحف، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وكثير غيره من الصحابة، يحفظون ولا يكتبون، فلهذا قُدِّم زيد بن ثابت رضي الله عنه في هذه المهمة الكتابية.
2- أيضًا لابد أن يُنْظَر إلى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من قبيلة هُذَيْل، وهي قبيلة تختلف لهجتها عن قريش، وفي هذه المهمة التي اتَّفق الصحابة على أدائها بلهجة قريش لا يصحُّ أن يقود الأمر فيها هُذَلِيٌّ.
ومن الجدير بالذكر أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بعد أن هدأت الأمور، وتفكَّر في الموقف، اعترف بصواب رؤية عثمان رضي الله عنه، وأتى من الكوفة إلى المدينة معتذرًا، وقد عَلَّق الذَّهَبِيُّ على هذا الخلافِ بقولِه: «وقد ورد أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه رضيَ وتابعَ عُثْمَانَ رضي الله عنه وللهِ الحمدُ، وفي مصحفِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أشياءُ أظنُّها نُسِخَتْ، وأمَّا زَيْدٌ رضي الله عنه فكان أَحْدَثَ القومِ بالعَرْضَةِ الأخيرةِ التي عَرَضَها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَامَ تُوفِّيَ على جِبْرِيلَ»[2].
ومن المناسب بعد حديثنا عن نقطة الخلاف بين ابن مسعود وعثمان رضي الله عنهما أن نردَّ شبهةً اتُّهم بها عثمان رضي الله عنه وهو منها براء، وهي تهمة ضرب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه! والواقع أن ردَّ هذه التهمة يسير؛ إذ أن الأمر كله مختَلَقٌ لا أصل له، ولا توجد رواية صحيحة تدعم هذا الافتراء، وكان كلا الطرفين -على الرغم من الاختلاف- يُكِنُّ كامل الاحترام للطرف الآخر، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يرى أن عثمان رضي الله عنه هو أفضل الصحابة بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فعَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، قَالَ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ رضي الله عنه قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: «أَمَّرْنَا خَيْرَ مَنْ بَقِيَ وَلَمْ نَأْلُ»[3]. (نألو أي مقصِّر)[4].
[1] الترمذي: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله r، باب ومن سورة التوبة، (3104)، وقال: هذا حديث حسن صحيح وهو حديث الزهري لا نعرفه إلا من حديثه.
[2] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 1/488.
[3] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 3/46.
[4] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك